بقلم : الأستاذ زكرياء جبار
كل بلدان العالم تسعى لتنمية اقتصاداتها و قطاعاتها المتعددة، و بيد أن اقتصاد البعض منها متوقف على بلدان مستهلكة، كان لا بد من قمع تنمية المستهلك ليظل مستهلكا. و محاولات هذا الأخير تكون متعبة و مستنزفة له ضد المنتج المستغل، عندها يشعر انه يخوض حرب ضروسا تتنوع أسلحتها و طرقها، ليتحرر من دائرة التبعية و من مسرحية التنمية المظهرية التي صممها المنتج و أحسن تزيينها.
فطرحت البلدان النامية – تسمية سماها لهم المنتج لجعلهم يعتقدون أنهم كذلك – تساؤلات حول طريقة التنمية و سبل الوصول إلى التقدم و القوة الاقتصادية و العسكرية لتكون لها كلمة على طاولة العالم.
نعم، هناك دول سعت لخلق تنمية – في صمت دون جعجعة – حقيقية و ناجحة، لأننا نراهم أين وصلوا الآن بعد سنوات من الصمت و العمل، لأن هذا الأخير أخذ يتكلم عنهم و بصوت عال أحيانا، لتصير منتجة و خالقة أسواقا خارج حدودها بشكل مخيف و ملفت للنظر ( الصين، اليابان، الهند، سنغافورة….مثالا)
فإذا حللنا عن قرب هذه النماذج، نجدها تقريبا سلكت نفس الطريق و اشتغلت على نفس الاولويات: التعليم، الصحة، الأمن… لكن ليس بنفس الروح و الفكر.
فكانت الروح متمثلة في تاريخ البلد و هويته، في التشبت بتقاليده و عاداته. أما الفكر فتجلى في تلك الرؤية المستقبلية التي ينشدها البلد، أو بشكل أصح تنشدها تلك الفئة المستبصرة التي تعد كنز الحاكم و عدته من المستشارين المفكرين و المبدعين المهرة.
عندها طرح المؤسسون للتنمية سؤالين عميقين:
– كيف نصير تاريخنا و هويتنا روحا؟
– و كيف نرسم رؤيتنا للمستقبل و نجعلها فكرا و منهجا؟
و للإجابة استعان ربابنة بعض البلدان بمن تزخر بهم بلادهم من علماء مفكرين و مبدعين إلى حد الاستعانة – استقطاب في الغالب – بمفكرين من بلدان أخرى، بمفكرين لم تستفد منهم بلدانهم أبدا، ليس رفضا منهم و لكن صدا من ربابنة – فاقدين للبوصلة – يجهلون أن خسائر الجهل باهضة جدا تجاه مصاريف العلم، يجهلون أن الجهل يفضي لخسائر مستمرة بعكس العلم الذي يعود بأرباح ترفع البلاد لدرجات عليا.
و الغريب أن تضع بلدان تطمح في التنمية، ثقتها في الاجنبي الغريب، و الأغرب أن لا تشعر بخزي و لا عار في ذلك، بل تفتخر بأنها استعانت بهذا الغريب و تعترف بما صنعه لهم، من سنوات الدراسة و التحليل للإجابة على السؤالين أعلاه و الامساك بمنهج ثنائي لتنفيذه بكل حزم و ثقة.
هنا نلمس أن الفكر شيء مطلوب و غال الثمن، شيء له قيمة جليلة، فعندما نجد بلدا مصنعا يطفو على أرض تفتقد للثروات الباطنية، يطرح سؤال : كيف ذلك؟ و كيف استطاعوا بناء مصانع تفوق مساحاتها مساحة البلاد؟ و كيف و كيف…
المهرجون يسعون الى تقليد ما صنعوه و تكبد الأموال… لكن العقلاء يفهمون أن المسألة كبرى و سرية بما كان لأنها فكر و روح، ببصمة تاريخ و هوية البلد المتحضر المتقدم. لا سيما أن الحضارة كانت و ما زالت تتجلى في الفكر الذي تنضح به جدران المباني و ديكورات الشوارع، الفكر موجات تصلنا عبر مشاهدتنا لحركة الأفراد و الجماعات، الفكر هو طاقة و نور يتجدد كل صباح.
بهذه الطريقة تنساب كل المعاني الاخرى التي تفتقدها بلدان تحاول الانعتاق، لكن للأسف يبقى انعتاقا زائفا يعكس اتجاه عقارب ساعتها غصبا، و يا ليته كان يوقفها فحسب.
فلا يجد المفكر المحب لوطنه سوى الانضمام لطابور الاستقطابات الدولية لتوطين فكره اللامع هناك لأن وطنه الأم لا يوطن سوى الأجساد الخاوية من العقول… فلا لوم بعدها و لا حياة لمن تنادي.