يوم قررت أن أختم حياتي ما بين قلم الرصاص والصحيفة داخل حدود وطني

بقلم: الصحفي محمد زريزر

عندما بدأت أسمع عن الصحافة وأنا صغير كنت أتساءل: لماذا يسمونها “مهنة المتاعب”؟ وكنت أقول لنفسي: إذا كانت مهنة لا يفعل أصحابها شيئا غير نقل الأخبار إلينا تسمى مهنة المتاعب، فماذا يمكن أن نسمي مهنة أبي الذي كان يستيقظ كل يوم قبل الفجر ولا ينام إلا بعد العشاء؟ وكان أسهل عمل قام به في حياته مليئا بعشرات أضعاف المتاعب التي يمكن أن يسببها أصعب عمل يقوم به صحفي؟ السؤال نفسه تجدد في نفسي بعد تخرجي من الجامعة في تسعينيات القرن الماضي، فبعد رحلة بحث مضنية عن وظيفة -حكومية أو غير حكومية- تضمن حدا أدنى من العيش الكريم، لم أفلح فاضطررت كما الكثيرين من الخريجين من أبناء قريتي المهمشة إلى البحث عن عمل مهما كان شاقا، فانتهى بي المطاف إلى وُرش البناء، التي قضيت فيها أربع سنوات،وحل المعول والمطرقة والمواد الخشبية والمسامير..و..و..محل علم العروض والبلاغة والمعلقات السبع وبحورها الستة عشرة، ومقدمة ابن خلدون، ونحن والثرات والايديولوجيا العربية، وكتب الطيب التيزيني، واللسانيات العربية وكتاب سبويه، وألفية بن مالك، والمنفلوطي وطه حسين وتوفيق الحكيم وكتب الأدب المقارن، وكتاب الجاحظ وكليلة ودمنة…
وإشتد شوقي وحنيني لأبو حامد الغزالي، وأبو تمام، وأبو القاسم الشابي، وأبو العلاء المعري، وأبو الطيب المتنبي، ولأبو فراس الحمداني، وأبو نواس، وأحمد شوقي، ولأدونيس، وأفلاطون، وأنسي لويس الحاج، ولإيليا أبو ماضي، وابن الرومي، والأخطل، والأعشى، والبحتري، وللحارث بن حلزة اليشكري، والحطيئة، وللخنساء، وللطيب صالح، والفرزدق، وبدر شاكر السياب، وبديع الزمان الهمذاني، وبشار بن برد، ولجبرا إبراهيم جبرا، وحافظ إبراهيم، ولحسان بن ثابت، وخليل مطران، ولزهير بن أبي سلمى، وسقراط، ولعباس محمود العقاد، وغسان كنفاني، ومحمود درويش، وميخائيل نعيمة، ونازك الملائكة، ونجيب محفوظ، ونزار قباني، وسميح القاسم، وعبد الكريم الطبال ، وعبد الله العروي ، ومحمد شكري ، ولأحمد المجاطي ، والطيب الصديقي، ومحمد برادة ، وعبد الكبير الخطيبي ، ولإدريس الخوري ، وخناتة بنونة ، و محمد خير الدين ، ومحمد زفزاف، ولعبد اللطيف اللعبي، و محمد سبيلا، و عبد الكريم برشيد، وللطاهر بن جلون ، وطه عبد الرحمن، ولغيثة الخياط، وعبد الرفيع جواهري، وأحمد بوزفور، ولعبد الفتاح كيليطو، ولسالم يفوت، ولبنسالم حميش، و محمد بنيس، و نجيب العوفي، و علال الفاسي، و إدمون عمران المالح، ولعبد المجيد بن جلون، و عبد الكريم غلاب، و عبد الهادي التازي، و لمحمد عزيز لحبابي، إدريس الشرايبي..وبعض فقهراء القانون الدستوري.
تركت هؤلاء الأصدقاء الذين لا عمر لهم، لا يهم إن كانوا من عمرنا أو أكبر أو أصغر، هم في حياتنا كعمود الأساس في أي بناء، نستطيع أن نعيد تصميم الغرف وأماكنها، لكننا لا نقترب من العواميد الأساسية للبناء، فهي تمسك العمارة بأكملها وإن ذهبت ذهب البناء. هم أشخاص لا أستطيع، صدقا، أن أعطيهم عمرا، لأن قربهم منى إنسانيا وروحيا وعاطفيا يخلط عليّ الأمور. هم عشيرتي، هم شركاء في التفكير وفى النقاش لكن مع عمق إنساني، هم أصدقاء تمنيت لو أنني كنت قد اخدت بنصيحتهم قبل الوقوع في مطبات وُرش البناء.
تركت ألفة عشيرتي بدءا من الجاهلية حتى العصر الحديث ودراستي كذلك، وجندت نفسي كي أحقق قوت يومي.. لكن بسبب إسم قبيلتي لم يقبلوا توظيفي وجدت نفسي أمام خيارين ففضلت الثالث.. لا أملكُ أصدقاء،، لكنني صديق..
وتشاء الأقدار -بعد أربع سنوات التي قضيتها بين أكياس الإسمنت والرمل والآجور وخلطات الإسمنت المسلح وقضبان الحديد- أن تنعطف بي الحياة في اتجاه مهنة الصحافة فأكتشف أن فيها فعلا متاعب لا يستهان بها، وإن كان الكثير منها لا يقارن بمتاعب مهن أخرى.
العام 1986 قررت دخول عالم الإعلام؛ نصحتني زميلتي في الدراسة قائلةً: ((لسانك طويل؛ أخاف عليك، ممارسة الصحافة أسوأ من ممارسة العشق الحرام))؛ كانت ملهمتي في كتاباتي، وصديقة حروفي؛ رفضت كلامها جملةً وتفصيلاً، لكنها أقنعتني بالعدول عن تفكيري؛ يومها أحسست أن عالم الصحافة يتماهى مع “الجريمة”، وظلت كلماتي دفينة الوريقات في عتمة الدرج، تقارع البوح الممنوع، حتى تفجر الينبوع.
السلطة الرابعة… مجرد حلمٍ راودني في غرفة التحقيق العام 1989 لحظة احتساء قهوةٍ مع السجّان في سجن الكريمات بالمحمدية على غير عادتهم –كنت مدعوماً في عرفهم-، يومها علّقت وشاحاً على عنقي -علم مهنة الصحافة -أُهديته من شابٍ ماركسي لينيني أصيب في إحدى حلقات المنظمة الطلابية (أوطيم) الجامعية وتم استقباله مع ثلةٍ من الطلبة المناضلين في إحدى مستشفيات الدار البيضاء.
المحقق همس بصوتٍ خافت وبلهجةٍ لا تخلو من التأنيب: “عَيبْ عليك، تنشر مقالات تحريضية، أنتْ ثرثار، كلام أكبر منك، عامل صحفي…!!”.
تجربة التحقيق لم تمنع رغبتي في كسر القيود، ربما جنون الصحافة…؟!
عاد السؤال القديم يراودني… هل يأتي اليوم الذي أرفع فيه القلم والعلم، حققته بداية الاشتغال بالعمل الصحفي، ولست من يقرر نوعية الاتزان؛ فهو أمرٌ متروكٌ للتاريخ. لكني أرفض مبدأ أن أهاجر كباقي المنبوذين الذين ارتفعت أصواتهم على القهر من الانخراط في العمل الحزبي… أقلام المهجر لم تكن تعنيني، لأنني قررتُ يومها -وأنا أتحدث إلى صديقتي أن أختم حياتي ما بين قلم الرصاص والصحيفة داخل حدود وطني.
أعشق وطني، بالقدر الذي أذوب فيه بعالم الكلمات والصحافة، حتماً لأني من هواة المتاعب.
وليست متاعب “مهنة المتاعب” فقط في ما يعانيه المراسلون والمصورون الميدانيون من صعوبات ومخاطر، لكن هناك متاعب أخرى كثيرة يعاني منها حتى أولئك الصحفيون الذين يقضون يومهم جالسين على المكاتب يحررون الأخبار، فنحن أيضا -كما القضاء- لدينا صحافة جالسة وصحافة واقفة. من متاعبنا في هذه المهنة أنك أحيانا تسعى وتركض وراء المعلومة الصحيحة وتلهث وراء المسؤولين وأصحاب القرار، وتتصيد الفرص والأوقات والأماكن التي يمكن أن تكون مناسبة لهم، لكنك في الأخير قد تعود بخفي حنين، هذا إن لم تعد معهما ببعض الإهانات والصد والاحتقار. وحتى بعض من لا يملكون إلا قرار أنفسهم تحس أحيانا -عندما تسألهم شهادة أو رأيا في موضوع أو حادثة ما- وكأنك تتسول آراءهم ويشعرونك أنهم يتفضلون ويتصدقون عليك، وأن يدهم أعلى من يدك.
ومن متاعبنا أيضا أن أغلب الناس يتركون هموم أعمالهم في مكاتبهم، أما نحن فتلازمنا الأخبار والتطورات ومآسيها في كل لحظة، ونجد أنفسنا مضطرين لمتابعتها حتى ونحن نيام. وكم هو قاس على نفس الصحفي أيضا أن يجلس في لحظة صفاء مع نفسه يتأمل مهنته وحالها، فيكتشف في الأخير أنه يأكل الخبز بمآسي الآخرين، ويقتات من فتات تصريحات سياسية لمسؤولين يعلم أنهم كاذبون لكنه مضطر بحكم مهنته أن ينقل كلامهم للناس.
فكم من سياسي أخرق يطلق تصريحا أجوف في الصباح ونقضي يومنا معشر الصحفيين نركض وراء ردود الفعل التي أثارها و”نحلل مغزاه” و”الرسائل” التي تضمنها، لأنه للأسف ذو مركز مؤثر حتى لو لم يكن تصريحه كذلك، ولكم أن تتصوروا كم صحفيا في المغرب تستنفره تغريدة واحدة من رئيس حزب سياسي ربما يكون كتبها وهو في فراشه فيخلد هو للنوم ويطرده عن جفوننا نحن. كم هو قاس أيضا على نفس الصحفي أن يكتشف -عندما يلتفت إلى نفسه- أنه يعيش كل يوم وسط أشلاء الجرائد، ويمضي يومه متقلبا بين أقسى وأعنف الأفعال في اللغة مثل: قتل وفجر وهدد وندد وشدد وخطف وحاصر وهلك ومات وانهار وغرق وانتحر و….، وقلما يلتقي في خضم عمله اليومي فعلا من أفعال السعادة والفرح.

تعليق 1
  1. زكرياء جبار يقول

    وصفتم الحال نيابة عن الكثيرين…
    رفض الاخر للحقيقة التي يلمسها في التعبير هو سبب المتاعب… قول الحقيقة جهرا ليس بالأمر الهين كما تعلمون… على قول سي المجذوب : ” قول الحق و دير زرواطة في حزامك “…
    أجد نفسي وسط سطوركم، حفظ الله قلمكم من قصة قصيرة لصديق يحكي : ” تمردت كلماته فسجنوا قلمه “

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.